فصل: الثَّانِي: بِالذَّاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الثَّانِي: بِالذَّاتِ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثْنَى وثلاث ورباع}. وَنَحْوِهِ {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} وقوله: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم} وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَعْدَادِ كُلُّ مَرْتَبَةٍ هِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى مَا فَوْقَهَا بِالذَّاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم} فَوَجْهُ تَقْدِيمِ الْمَثْنَى أَنَّ الْمَعْنَى حَثُّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِالنَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَتَرْكِ الْهَوَى مُجْتَمِعِينَ مُتَسَاوِيِينَ أَوْ مُنْفَرِدِينَ مُتَفَكِّرِينَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَهَمَّ حَالَةُ الِاجْتِمَاعِ فَبَدَأَ بِهَا.

.الثَّالِثُ: بِالْعِلَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ:

كَتَقْدِيمِ (الْعَزِيزِ) عَلَى (الْحَكِيمِ) لِأَنَّهُ عَزَّ فَحَكَمَ وَتَقْدِيمِ (الْعَلِيمِ) عَلَى (الْحَكِيمِ) لأن الإتقان ناشئ عَنِ الْعِلْمِ وَكَذَا أَكْثَرُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَقْدِيمِ وَصْفِ الْعِلْمِ عَلَى الْحِكْمَةِ: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إنك أنت العليم الحكيم}.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُدِّمَ وَصْفُ الْعِلْمِ هُنَا لِيَتَّصِلَ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَهُوَ {لَا عِلْمَ لَنَا} وَفِي غَيْرِهِ مِنْ نَظَائِرِهِ لِأَنَّهُ صِفَاتُ ذَاتٍ فَيَكُونُ مِنَ الْقِسْمِ قَبْلَهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {إِيَّاكَ نعبد وإياك نستعين} قُدِّمَتِ الْعِبَادَةُ لِأَنَّهَا سَبَبُ حُصُولِ الْإِعَانَةِ.
وَقَوْلُهُ: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} فَإِنَّ التَّوْبَةَ سَبَبُ الطَّهَارَةِ.
وَكَذَا: {وَيْلٌ لِكُلِّ أفاك أثيم} لِأَنَّ الْإِفْكَ سَبَبُ الْإِثْمِ.
وَكَذَا: {وَمَا يُكَذِّبُ به إلا كل معتد أثيم}.
وَقَوْلُهُ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وأناسي كثيرا} قَدَّمَ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ سَبَبُ إِحْيَاءِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنَاسِيِّ وَقَدَّمَ إِحْيَاءَ الْأَنْعَامِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْيَا بِهِ النَّاسُ بِأَكْلِ لُحُومِهَا وَشُرْبِ أَلْبَانِهَا.
وَكَذَا كُلُّ عِلَّةٍ مَعَ مَعْلُولِهَا كَقَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أنما أموالكم وأولادكم فتنة}، قِيلَ: قُدِّمَ الْأَمْوَالُ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ السَّبَبِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا شُرِعَ النِّكَاحُ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلَى مؤونته فَهُوَ سَبَبٌ وَالتَّزْوِيجُ سَبَبٌ لِلتَّنَاسُلِ وَلِأَنَّ الْمَالَ سَبَبٌ لِلتَّنْعِيمِ بِالْوَلَدِ وَفَقْدَهُ سَبَبٌ لِشَقَائِهِ.
وَكَذَا تقديم البنات عَلَى الْبَنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ من الذهب والفضة} وَأَخَّرَ ذِكْرَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَنِ النِّسَاءِ وَالْبَنِينِ لِأَنَّهُمَا أَقْوَى فِي الشَّهْوَةِ الْجِبِلِّيَّةِ مِنَ الْمَالِ فَإِنَّ الطَّبْعَ يَحُثُّ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ فَيَحْصُلُ النِّكَاحُ وَالنِّسَاءُ أَقْعَدُ مِنَ الْأَوْلَادِ فِي الشَّهْوَةِ الْجِبِلِّيَّةِ وَالْبَنُونَ أَقْعَدُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّهَبُ أَقْعَدُ مِنَ الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةُ أَقْعَدُ مِنَ الْأَنْعَامِ إِذْ هِيَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَحْصِيلِ النِّعَمِ فَلَمَّا صُدِّرَتِ الْآيَةُ بِذِكْرِ الْحُبِّ وَكَانَ الْمَحْبُوبُ مُخْتَلِفَ الْمَرَاتِبِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ التَّرْتِيبِ أَنْ يُقَدَّمَ مَا هُوَ الْأَهَمُّ فَالْأَهَمُّ فِي رُتْبَةِ الْمَحْبُوبَاتِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إن شكرتم وآمنتم} قُدِّمَ الشُّكْرُ عَلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَنْظُرُ (إِلَى) مَا عَلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فِي خَلْقِهِ وَتَعْرِيضِهِ لِلْمَنَافِعِ فَيَشْكُرُ شُكْرًا مُبْهَمًا فَإِذَا انْتَهَى بِهِ النَّظَرُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْعِمِ آمَنَ بِهِ ثُمَّ شَكَرَ شُكْرًا مُتَّصِلًا فَكَانَ الشُّكْرُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِيمَانِ وَكَأَنَّهُ أَصْلُ التَّكْلِيفِ وَمَدَارُهُ. انْتَهَى.
وَجَعَلَهُ غَيْرُهُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ الشُّكْرِ وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لشرفه.

.الرَّابِعُ: بِالرُّتْبَةِ:

كَتَقْدِيمِ (سَمِيعٍ) عَلَى (عَلِيمٍ) فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّخْوِيفَ وَالتَّهْدِيدَ فَبَدَأَ بِالسَّمِيعِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْأَصْوَاتِ وَإِنَّ مَنْ سَمِعَ حِسَّكَ فَقَدْ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَيْكَ فِي الْعَادَةِ مِمَّنْ يَعْلَمُ وَإِنْ كَانَ علم الله تعلق بِمَا ظَهَرَ وَمَا بَطَنَ.
وَكَقَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ سَلَامَةٌ وَالرَّحْمَةَ غَنِيمَةٌ وَالسَّلَامَةُ مَطْلُوبَةٌ قَبْلَ الْغَنِيمَةِ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَتْ فِي آيَةِ سَبَأٍ في قوله: {الرحيم الغفور} لِأَنَّهَا مُنْتَظِمَةٌ فِي سِلْكِ تَعْدَادِ أَصْنَافِ الْخَلْقِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغفور} فَالرَّحْمَةُ شَمِلَتْهُمْ جَمِيعًا وَالْمَغْفِرَةُ تَخُصُّ بَعْضًا وَالْعُمُومُ قَبْلَ الْخُصُوصِ بِالرُّتْبَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم} فَإِنَّ الْهَمَّازَ هُوَ الْمُغْتَابُ وَذَلِكَ لَا يَفْتَقِرُ إلى شيء بخلاف النميمة.
وقوله: {يأتوك رجالا وعلى كل ضامر} فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الَّذِينَ يَأْتُونَ رِجَالًا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَالَّذِينَ يَأْتُونَ عَلَى الضَّامِرِ مِنَ الْبَعِيدِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ التَّقْدِيمِ بِالشَّرَفِ لِأَنَّ الْأَجْرَ فِي الْمَشْيِ مُضَاعَفٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} مَعَ أَنَّ الرَّاكِبَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِنَ الْمَاشِي فَجَبْرًا لَهُ فِي بَابِ الرُّخْصَةِ.
ومنه قوله تعالى: {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} فَقَدَّمَ الطَّائِفِينَ لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْبَيْتِ ثُمَّ ثَنَّى بِالْقَائِمِينَ وَهُمُ الْعَاكِفُونَ لِأَنَّهُمْ يَخُصُّونَ مَوْضِعًا بِالْعُكُوفِ وَالطَّوَافُ بِخِلَافِهِ فَكَانَ أَعَمَّ مِنْهُ وَالْأَعَمُّ قَبْلَ الأخص ثُمَّ ثَلَّثَ بِالرُّكُوعِ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ وَلَا عِنْدَهُ.
ثُمَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَسْئِلَةٍ:
الْأَوَّلُ: كَيْفَ جَمَعَ الطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ جَمْعَ سَلَامَةٍ وَالرُّكَّعَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ جَمْعَ السَّلَامَةِ أَقْرَبُ إِلَى لفظ الفعل فطائفون بِمَنْزِلَةِ يَطُوفُونَ فَفِي لَفْظِهِ إِشْعَارٌ بِصِلَةِ التَّطْهِيرِ وَهُوَ حُدُوثُ الطَّوَافِ وَتَجَدُّدُهُ وَلَوْ قَالَ: بِالطُّوَّافِ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَصْدَرِ يُخْفِي ذَلِكَ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْقَائِمَيْنِ وَأَمَّا الرَّاكِعُونَ فَلِمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَوْنَهُ فِي الْبَيْتِ وَلَا عِنْدَهُ فَلِهَذَا لَمْ يُجْمَعْ جَمْعَ سَلَامَةٍ إِذْ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى بَيَانِ الْفِعْلِ الْبَاعِثِ عَلَى التَّطْهِيرِ كَمَا احْتِيجَ فِيمَا قَبْلَهُ.
الثَّانِي: كَيْفَ وَصَفَ الرُّكَّعِ بِالسُّجُودِ وَلَمْ يَعْطِفْ بِالْوَاوِ؟.
وَالْجَوَابُ: لِأَنَّ الرُّكَّعَ هُمُ السُّجُودُ وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ السُّجُودَ يَكُونُ عِبَارَةً عَنِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ فَلَوْ عُطِفَ بِالْوَاوِ لَأَوْهَمَ إِرَادَةَ الْمَصْدَرِ دُونَ اسْمِ الْفَاعِلِ لِأَنَّ الرَّاكِعَ إِنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَيْسَ بِرَاكِعٍ شَرْعًا وَلَوْ عُطِفَ بِالْوَاوِ لَأَوْهَمَ أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ كَالَّذِي قَبْلَهُ.
الثَّالِثُ: هَلَّا قِيلَ السُّجَّدُ كَمَا قِيلَ الرُّكَّعُ وَكَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} وَالرُّكُوعُ قَبْلَ السُّجُودِ! وَالْجَوَابُ: أَنَّ السُّجُودَ يُطْلَقُ عَلَى وَضْعِ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ وَعَلَى الْخُشُوعِ فَلَوْ قال: المسجد لَمْ يَتَنَاوَلْ إِلَّا الْمَعْنَى الظَّاهِرَ وَمِنْهُ: {تَرَاهُمْ ركعا سجدا} وَهُوَ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ وَرُؤْيَةُ الْعَيْنِ لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالظَّاهِرِ فَقُصِدَ بِذَلِكَ الرَّمْزُ إِلَى السُّجُودِ الْمَعْنَوِيِّ وَالصُّورِيِّ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَعْمَالِ الظَّاهِرِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْبَيْتُ كَمَا فِي الطَّوَافِ وَالْقِيَامِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فَجُعِلَ السُّجُودُ وَصْفًا لِلرُّكُوعِ وَتَتْمِيمًا لَهُ لِأَنَّ الْخُشُوعَ رُوحُ الصَّلَاةِ وَسِرُّهَا الَّذِي شُرِعَتْ لَهُ.

.الْخَامِسُ: بِالدَّاعِيَةِ:

كَتَقَدُّمِ الْأَمْرِ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ عَلَى حِفْظِ الْفُرُوجِ فِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويحفظوا فروجهم} لِأَنَّ الْبَصَرَ دَاعِيَةٌ إِلَى الْفَرْجِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ».

.السَّادِسُ: التَّعْظِيمُ:

كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يطع الله والرسول}.
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}.
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ والملائكة وأولو العلم}.
{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}.

.السَّابِعُ: الشَّرَفُ:

وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
مِنْهَا: شَرَفُ الرِّسَالَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نبي} فَإِنَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.
وَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمي} {وكان رسولا نبيا}.
وَمِنْهَا: شَرَفُ الذُّكُورَةِ:
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والمسلمات}.
وقوله: {ألكم الذكر وله الأنثى}.
وقوله: {رجالا كثيرا ونساء}.
وأما تقديم الإناث في قول تعالى: {يهب لمن يشاء إناثا} فَلِجَبْرِهِنَّ إِذْ هُنَّ مَوْضِعُ الِانْكِسَارِ وَلِهَذَا جَبَرَ الذُّكُورَ بِالتَّعْرِيفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ فَضِيلَةِ التَّقْدِيمِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَقْدِيمَ الْإِنَاثِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى وَفْقِ غَرَضِ الْعِبَادِ.
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْحُرِّيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بالعبد} وَمِنَ الْغَرِيبِ حِكَايَةُ بَعْضِهِمْ قَوْلَيْنِ فِي أَنَّ الْحُرَّ أَشْرَفُ مِنَ الْعَبْدِ أَمْ لَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ.
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْعَقْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لَهُ من في السماوات والأرض والطير صافات}.
وقوله: {متاعا لكم ولأنعامكم}.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَنْعَامِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {تَأْكُلُ منه أنعامهم وأنفسهم} فَمِنْ بَابِ تَقْدِيمِ السَّبَبِ وَقَدْ سَبَقَ.
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْإِيمَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يؤمنوا} وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ فِي كُلِّ موضع والطائع على العاصي وأصحاب اليمين عن أصحاب الشمال.
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْحَيَاةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ من الميت ويخرج الميت من الحي}.
وقوله: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات}. وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي خلق الموت والحياة} فَمِنْ تَقَدُّمِ السَّبْقِ بِالْوُجُودِ وَقَدْ سَبَقَ.
وَمِنْهَا: شرف المعلوم، نحو: {عالم الغيب والشهادة} فَإِنَّ عِلْمَ الْغَيْبِيَّاتِ أَشْرَفُ مِنَ الْمُشَاهَدَاتِ.
وَمِنْهُ: {يعلم سركم وجهركم}. {ويعلم ما تسرون وما تعلنون}.
وأما قوله: {فإنه يعلم السر وأخفى}، أَيْ مِنَ السِّرِّ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: (السِّرُّ: مَا أَسْرَرْتَ فِي نَفْسِكَ وَأَخْفَى مِنْهُ مَا لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَكَ مِمَّا يَكُونُ في عد عِلْمُ اللَّهِ فِيهِمَا سَوَاءٌ) وَلَا شَكَّ أَنَّ الْآتِيَ أَبَلَغُ وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ يَسْتَدْعِي مُفَضَّلًا عَلَيْهِ عُلِمَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ فِي نَفْسِهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ تَقْدِيمُ السِّرِّ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ.
وَثَانِيهِمَا: مُرَاعَاةُ رُءُوسِ الْآيِ.
وَمِنْهَا شَرَفُ الْإِدْرَاكِ، كَتَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ وَالسَّمِيعِ عَلَى الْبَصِيرِ لِأَنَّ السَّمْعَ أَشْرَفُ عَلَى أَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ وَقُدِّمَ الْقَلْبُ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أبصارهم غشاوة} لِأَنَّ الْحَوَاسَّ خَدَمَةُ الْقَلْبِ وَمُوَصِّلَةٌ إِلَيْهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} فَأُخِّرَ الْقَلْبُ فِيهَا لِأَنَّ الْعِنَايَةَ هُنَاكَ بِذَمِّ الْمُتَصَامِّينَ عَنِ السَّمَاعِ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَجْعَلُونَ الْقُطْنَ فِي آذَانِهِمْ حَتَّى لَا يَسْمَعُوا وَلِهَذَا صُدِّرَتِ السُّورَةُ بِذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها}.
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْمُجَازَاةِ، كَقَوْلِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة}.
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْعُمُومِ، فَإِنَّ الْعَامَّ أَشْرَفُ مِنَ الْخَاصِّ كَتَقْدِيمِ الْعَفُوِّ عَلَى الْغَفُورِ أَيْ عَفُوٌّ عَمَّا لَمْ يُؤَاخِذْنَا بِهِ مِمَّا نَسْتَحِقُّهُ بِذُنُوبِنَا غَفُورٌ لِمَا وَاخَذَنَا بِهِ فِي الدُّنْيَا قَبِلْنَا وَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَتَقَدَّمَ الْعَفُوُّ عَلَى الْغَفُورِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَأُخِّرَتِ الْمَغْفِرَةُ لِأَنَّهَا أَخَصُّ.
وَمِنْهَا: شَرَفُ الْإِبَاحَةِ لِلْإِذْنِ بِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حلال وهذا حرام}، وإنما تقديم الْحَرَامُ فِي قَوْلِهِ: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} فَلِلزِّيَادَةِ فِي التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ أَوْ لِأَجْلِ السِّيَاقِ لِأَنَّ قَبْلَهُ: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طيبا}. ثم {إنما حرم عليكم الميتة}.
وَمِنْهَا: الشَّرَفُ بِالْفَضِيلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصالحين} وقوله: {ومنك ومن نوح} وَقَوْلِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الْآيَةِ. وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} {ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون} وقوله: {رب موسى وهارون} فِي الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ فَإِنَّ مُوسَى اسْتَأْثَرَ بِاصْطِفَائِهِ تَعَالَى لَهُ بِتَكْلِيمِهِ وَكَوْنِهِ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ فَإِنْ قُلْتَ فَقَدْ جَاءَ هَارُونَ وَمُوسَى فِي سُورَةِ طه بِتَقْدِيمِ هَارُونَ قُلْنَا لِتَنَاسُبِ رُءُوسِ الْآيِ وَمِنْهُ تَقْدِيمُ جِبْرِيلَ عَلَى مِيكَائِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وجبريل وميكال} لِأَنَّ جِبْرِيلَ صَاحِبُ الْوَحْيِ وَالْعِلْمِ وَمِيكَائِيلَ صَاحِبُ الْأَرْزَاقِ وَالْخَيْرَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْمُهَاجِرِينَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} وقوله: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} وَيَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْهِجْرَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ» وَبِالْآيَةِ احْتَجَّ الصِّدِّيقُ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ وَتَعْيِينِ الْإِمَامَةِ فِيهِمْ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما} فَإِنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ السَّلَامِ وَقَوْلُهُ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} قُدِّمَ الْقَرِيبُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْوَجْهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم}.
وَتَقْدِيمُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ، فِي نَحْوِ: {جَنَّتَانِ عن يمين وشمال} {عن اليمين وعن الشمال}.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْأَنْفُسِ عَلَى الْأَمْوَالِ، فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأموالهم}. وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَمْوَالِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي قَوْلِهِ: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَوَجْهُ التَّقْدِيمِ أَنَّ الْجِهَادَ يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ إِنْفَاقِ الأمولا فَهُوَ مِنْ بَابِ السَّبْقِ بِالسَّبَبِيَّةِ.
وَمِنْهُ: {مُحَلِّقِينَ رؤوسكم ومقصرين} فَإِنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ.
ومنه تقديم السموات عَلَى الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بالحق} وهو كثير وكذلك كثير ما يقع السموات بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَالْأَرْضُ لَمْ تَقَعْ إِلَّا مُفْرَدَةً.
وأما تأخيرها عنها في قَوْلُهُ: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ في الأرض ولا في السماء} فَلِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُخَاطَبِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إذ تفيضون فيه} وَهُوَ خِطَابٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَعَمَلُهُمْ يَكُونُ فِي الْأَرْضِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْآيَةِ الَّتِي فِي سَبَأٍ فَإِنَّهَا مُنْتَظِمَةٌ فِي سِيَاقِ عِلْمِ الْغَيْبِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض ولا في السماء}.
وَأَمَّا تَأْخِيرُهَا عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بيمينه} فَلِأَنَّ الْآيَةَ فِي سِيَاقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِنَّمَا هو لأهل الأرض.
وكذا قوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات}.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْإِنْسِ عَلَى الْجِنِّ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جان} وَقَوْلِهِ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} وَقَوْلِهِ: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ والجن على الله كذبا}.
وَقَوْلِهِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الجان من مارج من نار}.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْجِنِّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: {يا معشر الجن والإنس} فَلِأَنَّهُمْ أَقْدَمُ فِي الْخَلْقِ فَيَكُونُ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ- أَعْنِي التَّقْدِيمَ بِالزَّمَانِ- وَلِهَذَا لَمَّا أَخَّرَ في آية الحجر صرح بالقبلية بذكر الْإِنْسَانِ ثُمَّ قَالَ: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ}.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَمْثِلَةِ السَّالِفَةِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْأَعْجَبِ لِأَنَّ خَلْقَهَا أَغْرَبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي على أربع}.
أَوْ لِأَنَّهُمْ أَقْوَى أَجْسَامًا وَأَعْظَمُ أَقْدَامًا وَلِهَذَا قدموا في: {يا معشر الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أقطار السماوات والأرض} وَفِي: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ والطير}.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ السُّجَّدِ عَلَى الرَّاكِعِينَ فِي قَوْلِهِ: {واسجدي واركعي مع الراكعين} وَسَبَقَ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الْخَيْلِ عَلَى الْبِغَالِ وَالْبِغَالِ عَلَى الْحَمِيرِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها}.
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ فِي قَوْلِهِ: {والذين يكنزون الذهب والفضة}.
فإن قلت: فهل يجوز أَنْ يَكُونَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ؟.
قلت: هيهات الذهب أيضا مؤنت وَلِهَذَا يُصَغَّرُ عَلَى ذُهَيْبَةٍ كَـ: (قَدَمٍ).
وَمِنْهُ تَقْدِيمُ الصُّوفِ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وأشعارها} وَلِهَذَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ عَلَى اخْتِيَارِ لُبْسِ الصُّوفِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَابِسِ وَأَنَّهُ شعار الملائكة في قوله: {مسومين} قيل: سيماهم يؤمئذ الصُّوفُ. وَعَنْ عَلِيٍّ: الصُّوفُ الْأَبْيَضُ رَوَاهُ أَبُو نعيم في مَدْحِ الصُّوفِ وَقَالَ: إِنَّهُ شِعَارُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ ابن مسعود: (كانت الأنبياء قَبْلَكُمْ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ) وَفِي الصَّحِيحِ فِي مُوسَى عليه السلام: «عليه عباءة».
منه تَقْدِيمُ الشَّمْسِ عَلَى الْقَمَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {والشمس والقمر} وقوله: {وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا} وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نورا}، وَالْحُكَمَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَمَدٌّ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا مُفْرَدًا بِالْحُسْنِ وَالشَّكْلِ ** مَنْ دَلَّ عَيْنَيْكَ عَلَى قَتْلِي

الْبَدْرُ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى نُورُهُ ** وَالشَّمْسُ مِنْ نُورِكَ تَسْتَمْلِي

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فيهن نورا وجعل الشمس سراجا} فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ مُنَاسَبَةَ رُءُوسِ الْآيِ أَوْ أَنَّ انتفاع أهل السموات بِهِ أَكْثَرُ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ يُقَالُ إِنَّ القمر وجهه يضيء لأهل الشمس وَظَهْرُهُ إِلَى الْأَرْضِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهِنَّ} لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ نُورِهِ يُضِيءُ إِلَى أَهْلِ السماء.